"وراء صرخاتهم حبٌّ خفيّ".. حين يقول الطفل "ابتعد عني!" وهو في الحقيقة يطلب العناق
في مشهد يتكرر داخل بيوت كثيرة، يصرخ طفل في وجه أمه قائلاً: "لا تقتربي مني!"، فتشعر الأم بالخذلان، أو الغضب، وربما تبدأ بسيل من التوبيخ والتهديد. لكن، ماذا لو لم تكن هذه الكلمات تعني ما تبدو عليه حرفيًا؟ وماذا لو كان الرفض الصاخب مجرّد ستار لسيل من المشاعر الخفية؟
التجارب التربوية الحديثة، والدراسات النفسية، تكشف عن حقيقة مختلفة تمامًا: الطفل حين يرفض، يصرخ، أو يتصرف بعدوانية، لا يعلن الحرب، بل يرفع راية الاستغاثة.
الرفض ليس تمردًا.. بل طلب أمان
غالبًا ما يُساء تفسير السلوكيات الانفعالية عند الأطفال على أنها عناد، أو قلة احترام، لكن في الحقيقة، فإن الطفل لا يمتلك دائمًا الأدوات اللغوية أو العاطفية للتعبير عمّا يدور بداخله. وبالتالي، يتحوّل الاضطراب الداخلي إلى انفجارات سلوكية يصعب فهمها.
وراء كل "لا تقترب مني"، هناك نداء دفين يقول: "أشعر بالارتباك.. خذني في حضنك"، ووراء كل نوبة غضب، مشاعر احتياج، وربما خوف من خيبة أمل الأهل أو فقدان حبهم.
حين لا يكون الانضباط كافيًا
الرد بعقوبات مباشرة أو كلمات قاسية على الطفل في حالة غضب، قد يؤدي إلى نتائج عكسية. فالطفل لا يكون قادرًا، خلال لحظات التوتر، على معالجة الكلام المنطقي أو الخضوع لسلطة الأوامر.
ما يحتاجه فعلاً هو ما يُعرف في علم النفس بـ"التنظيم المشترك للمشاعر"، أي وجود شخص بالغ ثابت وهادئ يرسل برسائل طمأنة عاطفية غير مباشرة: "أنا هنا.. ولن أتخلى عنك حتى في أسوأ لحظاتك".
من "خصم غاضب" إلى "قائد هادئ"
في قلب هذه الفلسفة التربوية، يتغير دور الوالدين من مراقبة ومعاقبة السلوك إلى فهم جذوره. وهنا، بعض العبارات التي تُحدث فرقًا كبيرًا:
بدلاً من: "توقف عن الصراخ فورًا!"
قل: "أفهم أنك غاضب.. أنا هنا إذا أردت التحدث."
بدلاً من: "اذهب إلى غرفتك الآن!"
جرب: "تبدو منزعجًا، هل ترغب في بعض الوقت وحدك؟ سأكون قريبًا إذا احتجتني."
بدلاً من: "أنت لا تحترم أحدًا!"
اسأل: "ما الذي أغضبك بهذا الشكل؟"
بهذا التحول، لا يفقد الأهل السيطرة، بل يكسبون ثقة أبنائهم، ويمنحونهم نموذجًا فعّالًا في كيفية تنظيم المشاعر والتعبير عنها.
الطفل العنيد.. غالبًا هو الطفل المجروح
غالبًا ما يكون سلوك "العناد" غطاءً لمشاعر معقدة: كالإحساس بالضعف، أو الخوف، أو الوحدة العاطفية. والأطفال الذين يظهرون بصورة مزعجة، هم في الغالب الأكثر حاجة لاحتضان داخلي، لا لعقاب.
والتربية الواعية لا تلغي القواعد، لكنها تضعها بلغة الحب والطمأنينة، فتعلّم الطفل أن الحب لا يُسحب في لحظات الغضب، بل يصبح أكثر حضورًا.
في اللحظات الصعبة.. تُبنى العلاقات القوية
الطفل في أقصى لحظات استفزازه، لا يحتاج إلى خصم يُشهر سيفه، بل إلى بالغ يرى ألمه من خلف السلوك. فهناك، في عمق الأزمة، تولد أجمل لحظات التقارب.
لا تنخدع بالصوت العالي أو الكلمات الجارحة، فقد يكون ما يقوله الطفل فعلاً هو: "هل ستظل تحبني رغم كل هذا؟".
في كل بيت، هناك فرص يومية لصنع الفارق في حياة الطفل، لا عبر العقاب أو التوبيخ، بل عبر الحضور الصادق والتواصل العاطفي. وحين نختار أن نكون "القائد الهادئ" بدلًا من "الخصم الغاضب"، نمنح أبناءنا ما هو أكبر من الانضباط.. نمنحهم الأمان.